الثلاثاء، 1 أبريل 2014

المربي الفاضل

      في البدء يجب الإقرار أنه  من الصعوبة بمكان أن يتحدث المرء عن صفة المربي الفاضل أو الناجح، دون التماس العبر ممن صاغوا نجاحهم بعفوية نادرة في تاريخ البشرية، تلك العفوية التي كان للإلهام فيها دور كما كان للرغبة  الحرة الصادقة في النجاح خاصة دور آخر .

        لقد كان للتجارب التي مرّ بها هؤلاء، كبير نصيب في توجيه الحياة نحو غايتهم دون كلل يحذوهم في ذلك حبّ المعرفة لا غير. ولعل تلك التجارب وحدها هي من صنعت أسماءهم وفرضت رؤيتهم من منظور العلم والتكوين. لا شك أن طرائقهم البدائية، أو التي نعتبرها كذلك كان لها الأثر البالغ في تحديد الغاية والمراد المتمثل في توجيه الإنسان نحو المثل العليا والغايات النبيلة التي لا تتيسر إلا لمن كان له استعداد خاص.

            من هنا رأيت أن أغوص في تاريخ البشرية بنيّة استجلاء مواقف مضى عليها من الزمن الكثير، لأنطلق في البحث عن هذا المربي الذي رفع هاماتنا فوق السحاب. والحقيقة أن كل متمعن في سيرورة الحياة، يرى أن ثمة أسماء كبيرة كانت وراء الكيفية التي بلورة الصورة الأخيرة والوجه الناصع للغد التالي . فموسى وعيسى عليهما السلام وسقراط ومحمد(ص) كانوا من أعظم المربين في تاريخ البشرية على الإطلاق. إن كل متبصّر لهذا الدرب الذي سلكوه يتعجب في طريقة الأداء التي أمدّت بعفوية نور الهداية وسيّجت برؤى الغد سبيل التملص من كل تبعات التلكؤ والفشل  كان للأنبياء نصيب كبير في مدّ البشرية بمعاني الأنس والرفقة والتعاون والتخلص من البغضاء والشحن والنظر صوب الآتي من الأزمان بغية التخلص من شرّ الآثام أولا لأنّ التخلص منها  يعني بالضرورة النظر نحو الأعلى، نحو القيم السامية التي تصنع الإنسان المثالي الذي يقود الأمة إلى الخير . كان ذلك دورالأنبياء الملهم لهم، وكان لغيرهم صور أخرى. فعيسى (عليه السلام )، في عزّ رحلته رأى أن يكون حاملا لرسالة السماء على كاهله مؤمنا بقدره، فسار يجوب آفاق أرض الميعاد ملهما المشركين واليهود طريق السداد التي تبنى على المحبة والصدق، وكان لابد أن يكاد له، ويعلم المكيدة التي دبّرها اليهود ولكنه ظل حاملا إناء المعرفة يسقي منه كل ضالّ. كانت التربية الوسيلة الوحيدة التي بيده المتمثلة في قبول الآخر مهما أساء إليك (إذا ضربك أحد على خدّك الأيمن فأدر له الأيسر). عبثا كانت المكائد، عبثا كانت الخيانات. وهو يعلم في العشاء الأخير الخائن إلاّ أنه أصرّ أن يكون معه . تلك الطريقة التي قلّ نظيرها لأنها إلهام ولأنها صدق روح، ولأنها أولا وأخيرا معرفة يقينية ثابتة لا تتزعزع مهما ألمّت بها الشدائد والمهالك. طريقة في التعليم أساسها الإيمان بالقضية ونهايتها الإيمان بالنجاح... لكن الأهم الذي يمثل المعرفة الكلية هو الثقة بالقائد الذي كان كلامه يصدر من نفس حرّة مؤمنة بما تقول صادقة فيه. إنّ طريقة التعليم لها ما يشفع لها عند هؤلاء وأولئك، هدف واحد ينطلقون منه هو التنوير الهادف الذي يأخذ بأيدي البشرية إلى الخلاص، ذلك كان ديدنهم إلى أن قضوا وبقي دربهم الذي سلكوه يومئ بالإنجازات العظمى والغايات السامية التي مهّدت لها طرائقهم ونواميسهم.

         وهذا فسقراط رجل آخر من طينة الملهمين الذين يستشرفون بقوة الغد البعيد . كان يحمل همّ الإنسانية الصامت الذي تآكلته شرور الدّنى وانتهت ساخرة من تردّيه ومسخه . لقد ألف سقراط حياة أخرى مليئة بالأمل والشذى، شذى المعرفة والتطلع فآل على نفسه أن يكون معلما بين جنبيه حقيقة وفكرة، وسار بين الناس لا يثنيه وجل ولا تعوقه ملمّة. سار يعلّم الناس الحقيقة ويزرع الفكرة منتشيا بالسؤال الذي يولّد الإجابة، متعلما بسهولة من أمه التي كانت لها طريقة تعليمية في توليد النساء, فكان العلم وكانت التربية المنزوعة من العقل الباطن والروح الغائب.

     لكن المعلم الأكبر الذي به استنارت الدنيا واتضحت معالمها المغيبة بالجهل وظلمات النفس، التي انطوت على جبل السقم واندسّ رأسها في وحل الخوف والانزواء بعيدا عن الله . إنه رسول البشرية محمد (ص). هذا المعلم الأمي الذي سالت على يديه أودية العلم والمعرفة طوفانا جرّ الحياة التي ألفت الإذعان وجهة والبقاء في ظلمات العيش دربا. كان محمد(ص) خير مربّ عرفته الدنيا إذ نقل العالم بأسره من العمى إلى النور، ليس النور الإلهي وحسب، بل نور العيش الكريم الذي تكفله اليقينية السمحة المتمثلة في الخلق كلهم عيال الله ورزقهم عليه وحده. تلك المعادلة العجيبة قهرت نفوسا قوية وقويت نفوسا ضعيفة خرجت من مسوخ الأرض لتتبوأ  سلطة الدنيا. كان لإلهامه وحده الصورة المبهرة الناصعة التي دامت مضيئة فتسلح بها عموم الناس وخرجوا بفضلها من عفونة التاريخ ليصنعوا مجدا في التاريخ. إن هذا المربي العملاق كانت له روح العظمة التي انضوى تحتها يعلم ويوجه في الحرب وفي السلم، ولا يكلّ بالكلمة الطيّبة والرؤية السديدة حتى اعتبر أفضل معلم على وجه البسيطة ولا أجل من ذلك. إنما سقت ذلك لأقول إن طرائق التعليم التي جيئ بها كانت جميعا مجرد محاولات للأخذ بأيدي الناس نحو الرفعة والمثالية التي بقيت مقصدا هاما للبشرية.

      لقد كان محمد(صلى الله عليه وسلم) رجل أمان ورجل ثقة جعل من حوله يقدمونه على آبائهم وأقربائهم، فكان لهذه الثقة كبير الأثر في النفوس فانقادت مسلمة رقابها له مؤمنة بما يقول. وبذلك تعلمت كيف يكون القائد والمعلم فانتقلت في ظرف وجيز، من أمّة كما يقول العقاد (أشبه بشياه هملة)، إلى أمة تقود وتصنع المجد. لقد كان الرسول الكريم(صلى الله عليه وسلم) خير معلم لها وثقت به وتعلمت على يديه فانتهت إلى السمو والفخار، وأيّ مجد لا يعتد به في تاريخ الأمم .  ولعلّ الأمثلة كثيرة في حياتنا العامة والتي أسعفتنا بتجارب عديدة شكّلت على مرّ العصور فسحة للبحث والتنقيب. فحين نستحضر في عصرنا الحديث لا المعاصر صورة الأديب (طه حسين) من خلال مذكرات الأيام التي عبّر فيها عن سخطه ونفوره من طريقة الأزهر يتأكد لنا الوجه المتطلع إليه من شباب ذاك الزمن، لقد لخّص الأزهر طريقة التعليم في القرآن والسنة ومتون ابن عاشر والألفية ونحو الكفراوي ليصير القارئ لها معلما يمكنه نقل العلوم التي تلقاها إلى غيره من الأميين. وفي الحقيقة لا يمثل ذلك غير بدائية محصورة في انغلاق الناس والكون كله، على تلك الصور الجافة الجامدة التي ما صنعت ولا أعتقد أنها تصنع معلما فاضلا أو مربيا مثاليا. فالمقارنة التي أجراها طه حسين حينئذ بين الأزهر وجامعة لطفي السيد أجلت الغموض عن التخلف في الطرائق التربوية التي يعيشها المعلم والمتعلم لذا كان لزاما، أن يتغير الكل باتجاه الوجهة الصحيحة العاملة على انتهاج سبل البحث لا الحشو. ولا يمكن أن نغفل الجهود العديدة التي تحققت على أيدي العلماء من بعد والتي أنتجت طرائق عديدة أسهمت جميعها في تكوين الفرد وتعددت تسمياتها من تلقينية إلى استقرائية إلى استنتاجية إلى المقاربة بالكفاءات والتي أسهم في إعدادها علماء مارسوا الفعل التربوي  وعايشوا تجارب عديدة مكنتهم من بلوغ الشأو. لكن هل تمكنت هذه الطرائق جميعها على اختلاف مشاربها من أن تتوقف بعد أن وصلت مبتغاها؟، لا أعتقد ذلك، لأن الإنسان متجدد على الدوام وصورة المستقبل تزداد التباسا ورغبته تزداد تأججا، إنه الكائن الذي يستسيغ التحدي ويسعى بما أودع الله في نفسه من حبّ التطلع والمعرفة، يزداد إيمانا بالمعرفة، والرغبة في الإدراك تدفعه كي يزيد غوصا في مجاهيل هذه الحياة . ولعل التجارب الرهيبة التي وصل إليها المربّون الآن هادفين من خلالها إلى أكبر كم من المعرفة، تلك الطرائق المستندة في شقها العلمي إلى الحكمة الصينية التي تقول (لا تعط  الإنسان السمك بل علّمه كيف يصطاد السمك). هذه الحكمة القديمة قدم التاريخ توضح بما لا يدع مجالا للشك أن المعلم عليه أن يطور أدواته وأن المتعلم عليه أن يستحضر قدراته وإمكاناته ليكون معلم نفسه، وسيدا في مكانه . فالطريقة التي تعلّم هي في أساسها من مكمن الذات الراغبة المتطلعة لا الكامنة خلف العجز والركود، والمعلم الناجح هو الذي يثق في نفسه يعتد بقدرته متسلحا باجتهاد دائم وهو من يزرع المحبة الخاصة لذاك الشئ في نفسه قبل أن يزرعه في طلابه وطالباته . وأعتقد أن النجاح النسبي الذي يتحقق في الغالب لبعض المتعلمين سبب نسبيته هو عجز المعلم أو الأستاذ في إقناع نفسه،  قبل طلبته بأن إقباله عليه كان من باب الرغبة والمحبة ، فيبرز جوانب الجمال فيه فيكون أقرب لهم ومن ثم يكون الإقبال عليه

  وخلاصة القول إن محبة الشيء، أي شيء هو مكمن النجاح فيه والثقة بين طالبي الشيء ومقدمه أساس كل نجاح، ولذا أرى أن هذا من صميم الصفة اللاصقة للمربي الناجح في عموم الحياة .


                                                                                                            بقلم  د.ميلود قيدوم

0 التعليقات:

إرسال تعليق