الأربعاء، 19 مارس 2014

جان جاك روسو Jean Jacques Rousseau من خلال سلسلة " عباقرة خالدون"

  البطاقة الفنية للكتاب
______________________
عنوان الكتاب : جان جاك روسّو
      سلسلة (عباقرة خالدون )
----------------------
مؤلّف الكتاب : محمّد كامل حسن 
                  المحامي
دار النّشر: المكتب العالمي للطّباعة
       والنشر والتوزيع
       ـ بيروت ـ لبنان
--------------------
عدد الصفحات: 87 ص
محتويات الكتاب:
 مقدّمة وخمسة وفصول
 الفصل الأول: بيئته ونشأته
 الفصل الثاني: طرده من وطنه   
  الفصل الثالث: العبقرية التّربوية
  الفصل الرّابع: صوت روسّو في إيطاليا وأمريكا
   الفصل الخامس: روسّو الفنّان
_____________________
                                                           
    الولادة و النشأة:
    للشّهرة والخلود أبواب لا يدخلها إلاّ الإنسان الذي يشهد له التّاريخ بالعبقرية الفذّة ، ولامناص من أنّ التاريخ أعدل  شاهد .
 ومن العباقرة الذين كرّسوا حياتهم ومواهبهم وطاقات نشاطهم العقليّ لخدمة الإنسانية جمعاء وإسعادها وتقدّمها "جان جاك روسّو " .


     فشهدت عائلة " روسّو" بمدينة  جينفا Geneva " عام 1712 ميلادي الطّفل " جان " في ظروف اجتماعية   
  وسياسية قاهرة، وكانت هذه الظّروف كفيلة بأن تحطّم شخصية "جان" الطّفل، وتقتل عبقريته في مهدها لو لا قوّة إرادته وتمتّعه بمزايا الشّخصية النّاضجة القويّة من رزانة، هدوء، بعد نظر، واعتزاز بالنّفس.
    نشأ وترعرع " جان جاك روسّو " في بيئة الاستبداد والإقطاع والفقر وقلّة انتشار التّعليم . فالأب يترك الدّراسة مكرها لا طوعا بحثا عن لقمة العيش لأسرته ، ويتولّى بنفسه تعليم ابنه إلا أنّ عصبيته أثنته عن تحقيق مبتغاه.
    وكان " جان جاك روسّو " يجمع بين الموهبة والإرادة والشّخصية المتميّزة، فشقّ طريق النّجاح وولج عالم الشّهرة بالاعتماد على نفسه باكتساب الرّزق، وطلب العلم بتعليم نفسه بنفسه بعد أن فشل أبوه في أداء هذه المهمّة.
    أنس " جان جاك روسّو " في نفسه ميلا إلى القانون فانكبّ على قراءة كتب القانون، وتمكّن من امتلاك معرفة واسعة في القانون أهّلته ليشتغل في مكتب محاماة .
    يقول الكاتب " غرين . ف Green F " في كتابه " حياة جان جاك روسّو " معلّلا هروبه من المحاماة بسبب تمسّكه بمبادئ وفلسفة وضعها لنفسه إذ كان لا يساوم فيها . ومن أهمّ هذه المبادئ : " اعتقاده بأنّ الإنسان الذي يستحقّ احترام النّاس في المجتمع البشريّ ، هو الذي يبقى على فطرته التي جبل عليها . ووجهة نظره في ذلك
" هي أنّ الوليد يخرج من بطن أمّه وفي أعماق نفسيّته اتّجاهات إلى عمل كلّ ما هو خير ، لأنّ الإنسان بطبيعته التي فُطر عليها إنسانُ ُ ، وليس حيوانا أو شيطانا ".
  وهروبه هذا كان ترفُّعًا عن ما يوجد في المحاماة من تحايل على العدالة ، ووفاء لمبادئه وأفكاره ، وعالمه المثالي الذي ما فتئ يكتب عنه وينظّر له في مقالات وكتب ارتقى بفضلها إلى مصاف العباقرة والخالدين .
    وجان جاك روسّو لم يخرج عن ما ألفناه من العباقرة والشّخصيات المشهورة من اضطهاد المستبدّين وكيد الحاسدين، فكانت مؤلّفاته التي تدعو إلى اتّباع صوت الضّمير الحيّ والمثالية السّهم الذي رماه به أعداؤه في إبعاده عن وطنه فرنسا ، وطنه الذي كان يحبّه حبّا جمّا .
 ترك روسّو مؤلّفات كثيرة تناولت مختلف المجالات الثّقافية منها :" العقد الاجتماعي Le contrat Social  "
    وكتاب " اعترافات Confessions " تناول فيه حسب أغلب النّقاد طفولته ومراهقته.
  أمّا كتاب " إميل Emile  " الذي تقول فيه دائرة المعارف البريطانية  أعظم الكتب تأثيرا في تاريخ الثّقافة :
" إنّ  النّظريات التي وضعها جان جاك روسّو في كتابه هذا تدلّ على لون جديد من العبقرية يمكننا أن نسمّيه "العبقرية   التّربوية " . فعلا لقد كان كتاب روسو ( إميل ) الأب الرّوحي لكلّ ما استجدّ من نظريات فيما يسمّونه بالثّقافة الحديثة Modern Education  .
   بهذا الكتاب يكون " جان جاك روسّو " قد تفوّق على بعض الفلاسفة ،وعلماء التّربية في أوربا، حاولوا قبله أن يضعوا النّظريات الصّحيحة للنّهوض بوسائل التّعليم بوجه عام ، وبتربية الصّغار بوجه خاصّ .
  فجان جاك روسّو هو أوّل من نادى بتعميم التّعليم ومجّانيته، وجعله حقّا عامّا لكلّ إنسان كحقّه في تنفّس الهواء وشرب الماء وتناول الطّعام ، لأنّ المجتمع الإنسانيّ في مراحل تطوّره المتسمرّة يجعل الإنسان الجاهل في منزلة أحطّ من الدّرك الذي تتواجد فيه الحيوانات والحشرات .
  كما ينادي" روسو" بمبدإ تكافؤ الفرص في التّعليم دون التّمييز بين أبناء الطّبقات الاجتماعية ،لأنّ الذّكاء الفطريّ والاستعداد  لتلقّي العلم ، والقدرة على ارتقاء درجاته المختلفة ليس مقصورا على أبناء الأثرياء.     تظهر عبقرية " جان جاك روسّو " التّربوية في إيلائه عنصر التّشويق أهمية كبيرة في التّعليم بدءا بعنوان الكتاب " إميل Emile " الذي يحمل اسم التّلميذ الذي مرّ بمختلف مراحل التّعليم، وفي الأسلوب القصصي المشوّق الذي قدّم به الكتاب .
     ففي الكتاب اهتمّ بطريقة تعليم الصّغار، وبعلم النّفس سواء من ناحية نفسية المدرّس أم من ناحية التّلميذ الصّغير .
  وإلى جانب نظريته الخاصّة بتعميم التّعليم ومجّانيته ابتكر نظرية أخرى هامّة جدّا سمّاها " ثقافة ما قبل المدرسة  " The Preschool Education " وهي نظرية تصبّ فيما يسمّى اليوم بعلم نفسية الصّغار ، وتتلخّص هذه النّظرية في الإلمام بمعرفة نفسية الطّفل ، وتطبيقها يتطلّب إشراك والدي الطّفل، وتحديد الوسائل التي ترغّب الطّفل في التّعلّم .
  ويجب على والدي الطّفل تحضير وإعداد طفلهما إعدادا ذهنيا ونفسيا للالتحاق بالمدرسة لتلقّي المبادئ الأوّلية من   قراءة وكتابة وحساب . ولجعل التّلميذ يحبّ التّعليم ويستفيد منه لابدّ من استعمال الوسائل النّاجعة المرغّبة لا المنفّرة ، وهذه الوسائل تختلف من طفل لآخر . ومن الوسائل التي أشار إليها " جان جاك روسّو " وهي لا تخرج عن الأساليب  المغرية ــ في ظاهرها ــ للطّفل عن ممارسة اللّعب والتّسلية ولكنّها تربوية في جوهرها إذ تلقّنه بعض المبادئ  العلمية مثل العلبة التي يسمّونها ( الفكّ والتّركيب ) .
    ومن جملة ما يلحّ عليه من وسائل هي ضرورة إخراج تعليم الصّغار عن الإطار التّقليدي، أي بعدم التقيّد والالتزام  بقاعة الدّراسة في المدرسة ولا يكون المكان الوحيد لتلقّي الصّغير علومه الأوّلية لأنّ هذه القاعة تصبح في نظره سجنا يكره التّواجد فيه .
   والوسيلة الأخرى الهامّة المتمثلّة في قيّام الأطفال برحلة إلى الغابة ، وهي مكان الانطلاق ، وفرصة المدرّس للتقرّب من الصّغار والتّحدّث إليهم بأسلوب مشوّق بسيط عن بعض الحقائق العلمية التي تحيط بهم في تلك الغابة، مثيرا فيهم  حبّ الاطّلاع منمّيا فيهم روح المنافسة العلمية .
   ومن الوسائل الهامّة والفعّالة التي أشار إليها كذلك رواية بعض القصص التي تتضمّن المعلومات المفيدة، ذات المغزى التّربوي .
   ويكون جان جاك روسّو بهذه النّظريات قد أحدث ثورة في علم التّربية ،ونقدا لطريقة تعليم الصّغار التي كانت سائدة  في أوروبا والولايات المتّحدة الأمريكية وهي طريقة جامدة كانت ملتزمة ببرنامج كانوا يسمّونه برنامج الـ ( Four R’s) أي الموادّ الأربع التي تبدأ أسماؤها في المقطع الأوّل منها بحرف R وهي :
      القراءة Reading  ،  الكتابة    Writing ،   الدّين   Religion ، الحساب  Arthmetic
                                                                                          
   أمّا التّعليم الثّانوي فكان مقصورا على أبناء الفئة الميسورة الحال، وكان الإقبال عليه ضعيفاً بسبب صعوبة البرامج وجمودها .
   ليس من السّهل قبول نظريات "جان جاك روسّو" التّربوية والاصلاحية التي تسوّي بين أبناء الطّبقة الفقيرة في التّعلّم في بيئة أوروبا التي يحكمها النّظام الاستبدادي والإقطاعي . فقوبلت نظرية تعميم التّعليم ومجّانيته بمعارضة شديدة، وجنّد لذلك أصحاب المال والنّفوذ كلّ الوسائل من صحف وكتّاب مأجورين للنّيل منه ، والتّجريح في شخصيته ، وتأويل وجهات نظره وآرائه في طريقة التّعليم لتبقى أوربا في ظلام القرون الوسطى .
   ولكنّ الحقّ انتصر على الباطل فما جاء به جان جاك روسّو هو الحقّ الذي انتظرته أوروبا طويلا بصفة خاصّة  والبشرية بصفة عامّة ليدخل الإنسان عهدا جديدا .
    فتبنّت كلّ أوروبا والولايات المتّحدة الأمريكية هذه النّظريات التّربوية للنّهوض بمستوى التّعليم والثّقافة، وتزعّم ذلك علماء التّربية والكتّاب الأحرار .
    ففي ألمانيا كان العالم ( جوهان بيسدو Jhonne Basedow ) أكثر تحمّسا لتطبيق نظريات جان جاك روسّو، وتكفّل بتطبيقها تطبيقا واقعيا العالم التّربوي ( فردريك بروبيل Freedrich Froebel ) .
  أمّا إيطاليا فكان لها الحظّ الأكبر في تطبيق هذه النّظريات تطبيقا عمليا واقعيا بفضل العالمة العظيمة السّيدة
( ماريا  مونتسوري Maria Montessori ) ليسهموا في إنشاء الجمعيات والمدارس التي تطبّق فيها نظرياتها التّربوية  ونجحت كذلك في افتتاح مدارس أخرى للصّغار، طبّقت فيها نظرياتها لتأهيل الأطفال ذوي الاحتيّاجات الخاصّة .
  وكان أوّل من حمل نظريات جان جاك روسّو إلى الولايات المتّحدة الأمريكية عالم التّربية الألماني ( جوهان هربارتJohann Herbert  ) . وفي أواخر القرن التّاسع عشر الميلادي تقرّر في هذا البلد تطبيق مبدإ تعميم ومجّانية التّعليم  في مرحلة التّعليم الأوّلي للأطفال .
   ويعتبر الفيلسوف والعالم التّربوي ( جون ديوي John Dewy) من أكبر المتحمّسين لنظريات جان جاك روسّو ،فقد نجح ومجموعة من علماء التّربية الأمريكيين في فتح أبواب التّعليم الجامعي أمام كلّ طالب أنهى دراسته الثّانوية بغضّ النّظر عن مستوى نجاحه، أو مجموع الدّرجات التي تحصّل عليها بحجّة قصر التّعليم الجامعي على مستوى معيّن في النّجاح .
    جاء في كتاب إميل Emile  آراء أخرى "لجان جاك روسُو" ولكنّها لم تلق قبولا في دول كثيرة ولم تجد عند
  المسؤولين عن التّربية الجرأة الكافية للأخذ بها . ومن بين هذه الآراء ضرورة إحاطة الصّغار بالمسائل الجنسية.
    أمّا نظرية "الغرض أو الهدف من التّعليم" Interactive Position فلم يؤخذ بها ليس بسبب عدم الاقتناع بصحّتها ، بل لصعوبة أو استحالة تنفيذها .
   والنّظرية الصّحيحة التي نادى بها روسّو يصعب تنفيذها وهي جعل مدرّسي الأطفال في درجة مهنية أعلى من الدّرجة  التي يكون عليها أساتذة الجامعات . إنّ وجهة نظره في هذا الشّأن تتلخّص في أنّ مدرّسي الأطفال يتحكّمون في مستقبل التّلاميذ تحكّما بالغ الأثر، فهم يحبّبون الأطفال في العلم والدّراسة أو إعراضهم عن ذلك .أمّا الأستاذ الجامعي - حسب  روسُو- فيدرّس الطّلبة الذين اجتازوا أخطر مرحلة التّعليم ( الأوّلي ـ الابتدائي ) .
   قبل أن ننتهي من تقديم شخصية روسّو بهذا الإيجاز يجدر بنا أن نشير إلى نظرية من أهمّ نظرياته وهي النّظرية التي تتحدّث عن التّقدّم والارتقاء في مختلف العلوم والفنون ، ذلك الارتقاء الذي جاءت به المدنية الإنسانية الحديثة . فارتقى النّاس في كلّ جوانب الحياة ، وفي الوقت الذي كانت المدنية سببا في قتل الكثير من  الفضائل التي خُلق النّاس على حبّها . وفي رأي روسُو أن المدنية الحديثة غرست في الإنسان تطلّعات لم تكن تعرفها البشرية إلاّ في نطاق ضيّق فساعد في توسيع الفارق بين مختلف الطّبقات الاجتماعية ، وأصبح من الصّعب جدّا إقناع  الكثيرين من النّاس بعدالة بعض القوانين الوضعية . ولا يتحقّق ذلك في نظره إلاّ إذا تقاربت رغبات الحاكمين ورغبات المحكومين وبوجود ما أسماه الإرادة العامّة "Volonté Générale ".
    كما يجدر بنا أن نشير إلى أنّ "جان جاك روسّو" لم يكن صاحب نظريات فلسفية وتربوية فقط بل كان فنّانا ، كان يحبّ الموسيقى ، وهو عازف بارعُ ُ على آلة الكمان ، اشتغل بالنّقد الفنّي ، فكان ينتقد الأوبرات التي تعرض على المسارح المختلفة بباريس نقدا بنّاء . 
ما أعظم رجلا ولد بسيطا ومات عظيما ، ولد فقيرا ومات ثريّا ثراء لا يفنى بفناء الأجساد ، مات جان جاك روسّو بعد أن رأى ثمرة فكره تعلو به نحو المجد  سنة 1772 ،وري الثّرى تاركا وراءه ميراثا ضخمًا للبشرية جمعاء.  

                                                                                             بقلم الأستاذة نصيرة شعواطي
                                                                                              مفتشة التربية الوطنية

0 التعليقات:

إرسال تعليق